فصل: تفسير الآيات (42- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (41):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}
قرأ جمهور الناس {الكِلم} بفتح الكاف وكسر اللام، وقرأ بعض الناس {الكِلْم} بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة، وقوله تعالى: {يحرفون الكلم} صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه. ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادئ كذبهم لابد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله، وأما الكذب الذي لا يرفد بمبدأ فقليل الأثر في النفس، وقوله: {من بعد مواضعه} أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة والإشارة بهذا قيل هي إلى التحميم والجلد في الزنا، وقيل: هي إلى قبول الدية في أمر القتل، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية، ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً} أي لا تتبع نفسك أمرهم، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا {يطهر قلوبكم} وأن يكونوا مدنسين بالكفر، ثم قرر تعالى {الخزي في الدنيا}. والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
وقوله: {سماعون للكذب} إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضاً عن بني إسرائيل وقوله تعالى: {أكالون للسحت} فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر. و{السحت} كل ما لا يحل كسبه من المال. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة {السحْت} ساكنة الحاء خفيفة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {السحُت} مضمومة الحاء مثقلة. وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع {السِّحْت} بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى: {فيسحتكم بعذاب} [طه: 61] ومن الرباعي قول الفرزدق:
***إلا مسحتاً أو مجلف ** والسُّحْت والسُّحُت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت، والسحْت بفتح السين وسكون الحاء المصدر، سمي به المسحوت كما سمي المصدي صيداً في قوله عز وجل {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 95] وكما سمي المرهون رهناً، وهذا كثير.
قال القاضي أبو محمد: فسمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب وتستأصله النوب، كما قال عليه السلام من جمع مالاً من تهاوش أذهبه الله في نهابير، وقال مكي سمي المال الحرام سحتاً لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليل قليلاً، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتاً لأنه يسحت مروءة آخذه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أشبه، أصل السحت كلب الجوع، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يُلفى أبداً إلا جائعاً يذهب ما في معدته، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبداً لا يشبع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك بأن الرشوة تنسحت، فالمعنى هو كما قدمناه، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب، وليس كلب الغرث اصلاً للسحت، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب: مهر البغي سحت وعسب الفحل سحت وكسب الحجام سحت وثمن الكلب والخمر سحت، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذلك الكفر، وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم».
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل، وقوله تعالى: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} تخير للنبي صلى الله عليه وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم، وقال عكرمة والحسن: هذا التخيير منسوخ بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل} [المائدة: 49] وقال ابن عباس ومجاهد: نسخ من المائدة آيتان، قوله تعالى: {ولا القلائد} [المائدة: 2] نسختها آية السيف وقوله: {أو أعرض عنهم} نسختها {وأن احكم بينهما بما أنزل الله} [المائدة: 49].
قال القاضي أبو محمد: وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينقر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوي محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير، وإذا رضي به الخصمان فلابد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار، قاله ابن القاسم في العتبية، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم.
قال القاضي أبو محمد: وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النازلة عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر؟ وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته؟ ومالك رحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: {فإن جاؤوك} يعني أهل نازلة الزانيين.
قال القاضي أبو محمد: ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم.

.تفسير الآيات (42- 44):

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
أمن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من ضررهم إذا أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين {لن يضروكم} [آل عمران: 111] ثم قال تعالى: {وإن حكمت} أي اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما {فاحكم بينهم بالقسط} أي بالعدل، يقال أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار، ومنه قوله: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} [الجن: 15] ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه.
ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم، وذلك أنه قال: {وكيف يحكمونك} بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك، وقوله تعالى: {من بعد ذلك} أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى، وقوله تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين} يعني بالتوراة وبموسى، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة. وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} [المائدة: 41] أنه يراد به اليهود.
وقوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة} الآية، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. و{الهدى}: الإرشاد في المعتقد والشرائع، والنور: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، و{النبيون الذين أسلموا} هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية و{أسلموا} معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى. وقوله تعالى: {للذين هادوا} متعلق ب {يحكم} أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم. وقوله تعالى: {الربانيون} عطف على {النبيين} أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء، وفي البخاري قال: {الرباني} الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل {الرباني} منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه، وزيدت النون في {رباني} مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني، والأحبار أيضاً العلماء واحدهم حِبر بكسر الحاء، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به. وقال السدي المراد هنا {بالربانيين والأحبار} الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانياً والآخر حبراً.
وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما.
قال القاضي ابو محمد: وفي هذا نظر، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم وفضحهم فيه عبد الله بن سلام، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبراً ولا ربانياً. وقوله تعالى: {بما استحفظوا} أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى: {وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] والحمد لله. وقوله تعالى: {فلا تخشوا الناسَ واخشون} حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطاباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فقالت جماعة: المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب. وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان. وقيل لحذيفة بن اليمان أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ان كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة لتسلكن طريقهم قد الشراك. وقال الشعبي: نزلت {الكافرون} في المسلمين و{الظالمون} في اليهود و{الفاسقون} في النصارى.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعلم بهذا التخصيص وجهاً إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله: {فلا تخشوا الناس} وقال إبراهيم النخعي: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}
الكتب في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام، والضمير في {عليهم} لبني إسرائيل وفي {فيها} للتوراة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {أن النفس بالنفس} بنصب النفس على اسم {أن} وعطف ما بعد ذلك منصوباً على {النفس} ويرفعون {والجروحُ قصاص} على أنها جملة مقطوعة. وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله. و{قصاص} خبر {أن} وروى الواقدي عن نافع أنه رفع {والجروحُ} وقرأ الكسائي {أن النفسَ بالنفس} نصباً ورفع ما بعد ذلك، فمن نصب {والعينَ} جعل عطف الواو مشركاً في عمل {أن} ولم يقطع الكلام مما قبله. ومن رفع {والعينُ} فيتمثل ذلك من الأعراب أن يكون قطع مما قبل، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في عامل، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن المعنى لأن معنى قوله: {وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس} قلنا لهم النفس بالنفس ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى: {يطاف عليهم بكأس من معين} [الصافات: 45] يمنحون كأساً من معين عطف وحوراً عيناً على ذلك، ويحتمل أن يعطف قوله: {والعين} على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى: {إنه يراكم هو قبيلة من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} [الأنعام: 148].
قال القاضي أبو محمد: ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب {لا} في قوله: {ولا آباؤنا} فكانت {لا} عوضاً من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، قال ابو علي: وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضاً إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضاً من الضمير الواقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.
قال القاضي أبو محمد: وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لاسيما في هذه الآية، لأن {لا} ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضاً عن الآباء فتمكن العطف، قال أبو علي ومن رفع {والجروحُ قصاص} فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة.
ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {أنْ النفسُ بالنفس} بتخفيف {أن} ورفع {النفسُ} ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب {النفس} وما بعدها ثم قرأ: {وأن الجروح قصاص} بزيادة {أن} الخفيفة ورفع {الجروحُ}.
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضاً على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله: {النفس بالنفس} فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه: رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم حالفوا كتابهم، وحكى الطبري عن ابن عباس: كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري: وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها {النفس بالنفس}.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك قوله تعالى: {والجروح قصاص} هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود، وهي التي لا يخاف منها على النفس، فأما ما خيف منه كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه. فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل، وقوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} يحتمل ثلاثة معان، أحدها أن تكون من للجروح أو ولي القتيل. ويعود الضمير في قوله: {له} عليه أيضاً، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة، وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم.
وقال به أيضاً قتادة والحسن، والمعنى الثاني أن تكون من للجروح أو ولي القتيل، والضمير في {له} يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في {له} يعود عليه أيضاً، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهداً قال إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير. فإن كان بعينك بأس فإنها بها.
قال القاضي أبو محمد: وانظر أن {تصدق} على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوماً تأولوا الآية أن المعنى {والجروح قصاص} فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل قلق. وقد تقدم القول على قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} الآية. وفي مصحف أبيّ بن كعب {ومن يتصدق به فإنه كفارة له}.